قفز الرقم في وجهي كلكمة ، صفعنى كلطمة ، صعقني كصدمة ، بهتني كوصمة ، خنقني كأزمة
( 30 )...
الرقم الكمين الذي ظننت انني أراوغ للإفلات منه لكنه أرسل مخبريه الأجلاف فاقتادوني من قفاي إلى الباشا البارد الذي يقبع هادئا واثقا خلف مكتبه في مركز قيادة الزمن.. العدد المسنون الذي كنت أتقافز بين درجات الحياة ودركاتها وأجري وأحلق وأرقص وأحبو أكبو ظانا نفسي في منأى من قبضته ومنجى عن سطوته .. لكني في الواقع كنت كالباقين فأرا مسجى على قضبان الزمن موثقا بخيوط غير مرئية أقوى من الحديد والقطار قادم لا محالة ..
عندما ادركت تلك الحقيقة وددت لو اتبخر .. أنفقىء .. اتلاشى .. أكتشف اني سراب كان يغط في نوم عميق ويجدف في حلم شاسع بعمق وطول 30 عاما ! أي من ذلك لم يحدث ..ودهسني قطار العمر وها أنذا ألج الثلاثين وأنال ختم السنين على جبيني المسكين
الثلاثون عاما كانت جميلة في المجمل .. بفضل المولى الكريم لم أعان من محن أو أزمات عاصفة أو ظروف خانقة .. وإذا كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أرشد إلى أن من بات آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها ، فقد من علي المنعم العظيم بحوله وقوته بحياة آمنة في أسرة جميلة هادئة هانئة مستقرة لا تشوب مسيرتها الحياتية سوى بعض منغصات ومناوشات من الوزن المعتاد بحكم كوننا بشرا .. وبدلا من قوت اليوم لدي بفضل الله تعالى وحوله قوت أيام وأسابيع ، وعافية الجسد طالما اغرتني وسولت لي البرطعة في جنبات الحياة بهدف واضح حينا .. وبلا معنى ولا هدف أحيانا كثيرة جدا !!
س: ماذا إذن ؟ وعلام تلك الولولة على الأيام والثلاثين عام ؟
إنه الزمن يا صديقي .. الشلال الرهيب الذي يجرفنا إلى بعيد عن نقطة الأصل في حياتنا ومركز الكتلة والطاقة ومخزن البهجة وقصر الفرحة ونبع هنائنا الاصلي الوثير الصافي .. الزمن بحد ذاته رفيقق غير مريح .. لا يكف عن نفث الوساوس والهواجس في روعنا الملتاث المهترىء خلقة .. ولولا لطف العلي القدير لكنا من الذاهبين مع الريح ..
س: متى تجسدت تلك الحقيقة واستوت إزائي لحما ودما وفزعا قائما لا يرحم ؟؟
عندما كنت اطالع مدونة أحد زملاء جيلي المجوف الخاوي الخائر المغبون ، هو صحفي عرف من أين تؤكل الكتف وعلى أي المذاهب فشواها والتهمها إسلاميا و ليبراليا ! وحبس بعدها ببراد شاي ، بين الحين والآخر كنت أزور مدونته لأقف على أحدث تجليات صعوده المثير للتساؤل بحجم إثارته للقرف ! خصوصا واننا مشتركان في كوننا تربينا على الولاء لقيم ومثل أرضعها لنا أشبالا رجال صالحون حتى إشعار آخر ، باعث غامض جعلني أدخل البروفايل الخاص به على المدونة ، لأجده هناك بانتظاري ممدا بغطرسة ، شاخصا بتهكم كأنما يقول أين المفر يا صديقي ؟... 30 .. وجدت ان زميل جيلي المولود معي في نفس العام بلغ الـ 30 .. كدت أصرخ بجزع مستغيثا : لم نتفق على هذا .. لكنى استدركت على نفسي : مع من ..؟ اتفقت مع من يا بني آدم ؟؟ .. الزمن لا يتفق مع أحد .. هو يتركك مغرورا تمضي سادرا في أحوالك التى اخترتها بإرادتك وصنعتها على عينك وبين الحين والآخر يلاقيك عند محطات محسوبة ومقدرة من لدن الحكيم الخبير ليقول لك : خد بالك !
الزمن يا صديقي .. الدائن العجيب .. الذي يحصل ديونه منا حسرات وزفرات كفيلة بإحراق كل غابات الوجود .. وأشجار الدنيا .. وفاتنات الاحلام .. وحوريات الحكايات .. وثياب الساعات .. ساعاتنا في الحياة .. لتعريها .. ولأن الساعات هي نحن .. فنحن الآن عرايا ... يا صديقي !
*****************
استغرقت أسابيع كاملة لأستوعب الحقيقة : أنا كبرت !!!!!
صرت من ذوات الثلاثين !!!
أنا الذي لم يبارح قلبه ذلك الجسد الصغير البدين نسبيا الأمور شكليا ذو المريلة الكحلي ، الذي يقضي نهاره في الفرجة على أفلام الكارتون في حضانة على بحر العريش الساحر .. بلغت الثلاثين .. يا عالم .. يا شجر .. يا نجوم .. يا زحام .. يا سفر .. يا طريق .. يا صديق .. من ينقذني .. من يوقظني ؟؟
***********
بعد ذلك الانفجار العظيم الذي داهمني باكتشاف بلوغي الثلاثين هدأت بحار النار التى سكنت روحي ، وتلمست يبسا ضئيلا حططت فوقه والعالم حولي ضباب ودخان .. فورا اكتشفت أن اخطر ما في الأمر ليس كوني بلغت الثلاثين في ذاته ، وليس كوني ولجتها بدون زوجة ولا ذرية كما يؤكد والداي .. لكن الاخطر في القصة كلها أني لم أقل كلمتي بعد .. لم أدل بشهادتي للآن .. حتى اللحظة لم أصرخ في وجه العالم وأقرعه وأسمعه من الكلمات ما إن معانيه لتنوء بالعصبة أولى الحكمة .. لم أنتح جانبا بكل نجمة في السماء وأجعلها تفضي لي نشوانة بأسرار القرون التى تتابعت وتشققت وذراها النسيان تحت سمعها وبصرها .. و تبوح لي – مثلا – بآخر اعترافات الشياطين الذين احترقوا بشواظها عقابا على إصرارهم على ركوب رءوسهم ومطاوعة عنادهم والصعود لاستراق السمع للأسرار العلوية .. وكذلك كيف استطاعت – النجوم – كبح نقمتها على بنى البشر وأمسكت نفسها عن نسف عالمهم نكاية بمعاصيهم التى جمدت الدم في عروق الجبال !
وأني لم أصنع بساط الريح وأعوم على متنه بين امواج الأثير لأسمع نجوى ذرات الهواء التى تتسلى بها خلال ورديات العمل على حفظ حياة الأرض !
وأني لم أشرع بعد في تحقيق الحلم الجميل العنيد الذي غرسه شيوخنا فينا ونحن صغار بأن نكون طلائع عودة الزمن الطاهر الاول .. زمن الاحلام والمثل العظيمة .. عصر العدل والحرية والرحمة والتكافل والقوة والألوان والنور والبهجة والحب ونصاعة المعاني .. زمن الرسول والصحابة والتابعين الأبرار ومجد الإسلام وعز الحقيقة ومنعة اليقين وشموخ الأمل
و أني بعد لم أكتب رواياتي عن الحسين وحسن البنا وجلال الدين الرومي والنورسي
باختصار يا صديقي .. أسوأ ما في ثلاثينيتي انني بلغتها وحيدا خاويا تصفر رياح الحيرة والتساؤل داخلي محدثة صرخات رعب من الزمن وسطوته وجريان الأيام وصولتها
*********
رويدك يا صديقي ولا تعجل وتأخذ بلحيتي ورأسي وتصرخ في وجهي : هو أنا ناقص كلاكيعك وأحزانك ؟؟ .. ودعني مشكورا مأجورا أفضي لك بالمزيد عن أشد آلام الثلاثين التى وخزت قلبي مع دق منبه الزمان السرمدي - ولعمرك يا عزيزى إن لدقه لدويا يذهل الروع ويسلخ الروح ويعصف باللب ويعصر القلب – و أقصد بذلك عافاك الله من كل ذلك ولا أذاقك حزنا على أيامك - أني أدلف الثلاثين هذه الأيام وقد انطفأ كل شىء أمامي وحولي .. وذوت حيوية الاحداث والوقائع وصار صدؤها ينز صديدا وفقعا ورتابة ومللا .. خبا بريق الأوقات وغاضت معالم الأشخاص واستحالوا إلا قليلا كتيبة إعدام جهنمية للاحلام والآمال والجمال والبساطة والإيحاء والإثارة
واحدا واحدا تساقط الرموز أمام عيني .. كنت شاهد عيان على سقوطهم .. أغلب الرجال الذين كانت أقصى أحلامي مصافحتهم باليد صرت الآن أتقزز من مجرد تذكرهم واستدعاء أسمائهم وملابسات لقائي بهم ودخولهم حياتي .. صرت أصاب بالغثيان لمجرد مشاهدة احدهم في الإعلام سواء كانوا كتابا أو دعاة أو شيوخا أو مثقفين أو صحفيين .. أغلب هؤلاء أسفرت ضمائهم الملعونة عن حقيقة انها لم تكن يوما سوى بيوت دعارة للكلمات والمعاني والمثل الرفيعة .. كرهت الكلام والكتابة لأنهما تجارتهم وسبوبتهم .. لا يقولون إلا زورا .. ولا يغشون إلا فجورا .. يكتبون بوقاحة من يحرف كتابا مقدسا .. ويتحدثون في الفضائيات ببشاعة من يتبرز في طريق عام .. ألا قاتلهم الله اني يؤفكون .. وفضحهم حيث يطنطنون .. وأهلكهم إذ يبرطعون ويلعبون البيضة والحجر بالمعاني العظيمة والقيم السامقة ابتزازا لعواطف العامة وأموال الخاصة ودعم الماصة ( الذين يمصون دم الشعوب و يأكلون مال النبي ويسبغون على هؤلاء الحواة حماية ضمنية ليواصلوا أدوارهم في التمثيلية )
***********
لست يائسا يا صديقي المبجل ..
كلا وحاشى .. اليأس عندنا كفر ..
أضف معاليك إلى هذا انني بعد كل ذلك القرف المضني والتقزز المفجع لم يعد لي حصن ولا ملاذ سوى الإيمان وملاحقة اليقين وإسعاف وتجميع بقايا الحقيقة المتساقطة من براثن وأسنان وأقلام كهان الكلمات الكتبة أولئك .. فقط كنت أشرح لسموك الاجواء التى قادتني لهذا القرار : طز في العالم والبشر والحجر والشجر والبقر الذين يتدحرجون في الطرقات بالملايين ويجلسون ليلا امام الفضائيات بالساعات ليتسلوا بإعادة إخراج واقعهم ومعاناتهم .. وليحيا خلاصي الخاص : الإيمان الذي يجب ان يترجم إلى شهادة من كلام وحكايات ، وسباب لو لزم الامر لهذا العبث والقبح المريدين الذين يعصفان بجمالنا وسوائنا وسكينتنا وبهائنا.. ونلتقي بعد فاصل قصير إنشاء الله تعالى